وحكايات عربية اُخرى
{
}
 
الصفحة الرئيسية > كليلة ودمنة > باب الفحص عن أمر دمنة

الحكاية السابقة : باب الأسد والثور وهو أول الكتاب


باب الفحص عن أمر دمنة

قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد حدثتني عن الواشي الماهر المحتال، كيف يفسد بالنميمة المودة الثابتة بين المتحابين. فحدثني حينئذٍ بما كان من حالة دمنة وما آل أمره إليه بعد قتل شتربة، وما كان من معاذيره عند الأسد وأصحابه حين راجع الأسد رأيه في الثور، وتحقق النميمة من دمنة، وما كانت حجته التي احتج بها؛ قال الفيلسوف: أنا وجدت في حديث دمنة أن الأسد حين قتل شتربة ندم على قتله، وذكر قديم صحبته وجسيم خدمته، وأنه كان أكرم أصحابه عليه. وأخصهم منزلةً لديه، وأقربهم وأدناهم إليه؛ وكان يواصل له المشورة دون خواصه. وكان من أخص أصحابه عنده بعد الثور النمر. فاتفق أنه أمسى لنمر ذات ليلةٍ عند الأسد؛ فخرج من عنده جوف الليل يردي منزله، فاجتاز على منزل كليلة ودمنة. فلما انتهى إلى الباب سمع كليلة يعاتب دمنة على ما كان منه، ويلومه على النميمة واستعمالها؛ خصوصاً مع الكذب والبهتان في حق الخاصة. وعرف النمر عصيان دمنة وترك القبول له. فوقف يستمع ما يجري بينهما فكان فيما قال كليلة لدمنة: لقد ارتكبت مركباً صعباً، ودخلت مدخلاً ضيقاً، وجنيت على نفسك جنايةً موبقةً، وعاقبتها وخيمةٌ؛ وسوف يكون مصرعك شديداً، إذا انكشف للأسد أمرك، واطلع عليه، وعرف غدرك ومحالك ، وبقيت لا ناصر لك؛ فيجتمع عليك الهوان والقتل، مخافة شرك، وحذراً من غوائلك؛ فلست بمتخذك بعد اليوم خليلاً، ولا مفشٍ إليك سراً؛ لأن العلماء قد قالوا: تباعد عمن لا رغبة فيه. وأنا جدير بمباعدتك، والتماس الخلاص لي مما وقع في نفس الأسد من هذا الأمر. فلما سمع النمر هذا من كلامهما قفل راجعاً، فدخل على أم الأسد؛ فأخذ عليها العهود ومواثيق أن لا تفشي ما يسر إليها، فعاهدته على ذلك فأخبرها بما سمع من كلام كليلة ودمنة. فلما أصبحت دخلت على الأسد، فوجدته كئيباً حزيناً مهموماً: لما ورد عليه من قتل شتربة. فقالت له: ما هذا الهم الذي قد أخذ منك، وغلب عليك؟ قال: يحزنني قتل شتربة؛ إذ تذكرت صحبته ومواظبته على خدمتي، وما كنت أسمع من مناصحته. قالت أم الأسد: إن أشد ما شهد امرؤٌ بلا علم ولا يقين؟ ولولا ما قالت العلماء في إذاعة الأسرار وما فيها من الإثم والشنار ، لذكرت لك ولأخبرتك بما علمت. قال الأسد: إن أقوال العلماء لها وجوهٌ كثيرةٌ، ومعانٍ مختلفةٌ. وإني لأعلم صواب ما تقولين: وإن كان عندك رأي فلا تطويه عني؛ وإن كان قد أسر إليك أحدٌ سراً فأخبريني به، وأطلعيني عليه، وعلى جملة الأمر. فأخبرته بجميع ما ألقاه إليها النمر من غير أن تخبره باسمه. وقال: إني لم أجهل قول العلماء في تعظيم العقوبة وتشديدها، وما يدخل على الرجل من العار في إذاعة الأسرار؛ ولكني أحببت أن أخبرك بما فيه المصلحة لك؛ وإن وصل خطؤه وضرره إلى العامة فإصرارهم على خيانة الملك مما لا يدفع الشر عنهم، وبه يحتج السفهاء، ويستحسنون ما يكون من أعمالهم القبيحة. وأشد معارهم إقدامهم على ذي الحزم. فلما قضت أم الأسد هذا الكلام، استدعى أصحابه وجنده فأدخلوا عليه. ثم أمر أن يؤتى بدمنة. فلما وقف بين يدي الأسد، ورأى ما هو عليه من الحزن والكآبة، التفت إلى بعض الحاضرين فقال: مالذي حدث؟ وما الذي أحزن الملك؟ فالتفتت أم الأسد إليه وقالت: قد أحزن الملك بقاؤك ولو طرفة عين؛ ولن يدعك بعد اليوم حياً! قال دمنة: ما ترك الأول للآخر شيئاً: لأنه يقال: أشد الناس في توقي الشر، يصيبه الشر قبل المستسلم له. فلا يكونن الملك وخاصته وجنوده المثل السوء؛ وقد علمت أنه قد قيل: من صحب الأشرار، وهو يعلم حالهم، كان أذاه من نفسه: ولذلك انقطعت النساك بأنفسها عن الخلق، واختارت الوحدة على المخالطة، وحب العمل لله على حب الدنيا وأهلها. ومن يجزي بالخير خيراً وبالإحسان إحساناً إلا الله؟ ومن طلب الجزاء على الخير من الناس. وإن أحق ما رغبت فيه رعية الملك هو محاسن الأخلاق ومواقع الصواب وجميل السير؛ وقد قالت العلماء: من صدق ما ينبغي أن يكذب، وكذب ما ينبغي أن يصدق، خرج من مصاف العقلاء، وكان جديراً بالازدراء. فينبغي ألا يعجل الملك في أمري بشبهةٍ. ولست أقول هذا كراهةً للموت: فإنه وإن كان كريهاً، لا منجى منه. وكل حيٌ هالكٌ. ولو كانت لي مائة نفسٍ وأعلم أن هوى الملك في إتلافهن، لطبت له بذلك نفساً.

فقال بعض الجند: لم ينطق بهذا لحبه بالملك، ولكن لخلاص نفسه، والتماس العذر لها. فقال لها دمنة: ويلك! وهل علي في التماس العذر لنفسي عيبٌ؟ وهل أحدٌ أقرب إلى الإنسان من نفسه؟ وإذا لم يلتمس لها العذر، فمن يلتمسه؟ لقد ظهر منك ما لم تكن تملك كتمانه من الحسد والبغضاء؛ ولقد عرف من سمع منك ذلك أنك لا تحب لأحدٍ خيراً؛ وأنك عدو نفسك، فمن سواهاً بالأولى. فمثلك لا يصلح أن يكون مع البهائم، فضلاً عن أن يكون مع الملك، وأن يكون ببابه. فلما أجابه دمنة بذلك، خرج مكتئباً حزيناً مستحياً. فقالت أم الأسد لدمنة: لقد عجبن منك، أيها المحتال، في قلة حيائك، وكثرة وقاحتك، وسرعة جوابك لمن كلمك. قال دمنة: لأنك تنظرين إلى بعينٍ واحدةٍ، وتسمعين مني بأذنٍ واحدةٍ، مع أن شقاوة جدي قد زوت عني كل شيء، حتى لقد سعوا إلى الملك بالنميمة علي، ولقد صار من بباب الملك لاستخفافهم به، وطول كرامته إياهم، وما هم فيه من العيش والنعمة، لا يدرون في أي وقت ينبغي لهم الكلام، ولا متى يجب عليهم السكوت. قالت: ألا تنظرون إلى هذا الشقي، مع عظم ذنبه، كيف يجعل نفسه بريئاً كمن لا ذنب له؟ قال دمنة: إن الذين يعملون غير أعمالهم ليسوا على شيء؛ كالذي يضع الرماد موضعاً ينبغي أن يضع فيه الرمل؛ ويستعمل فيه السرجين ، والرجل الذي يلبس لباس المرأة، والمرأة التي تلبس لباس الرجل، والضيف الذي يقول: أنا رب البيت، والذي ينطق بين الجماعة بما لا يسأل عنه. وإنما الشقي من لا يعرف الأمور ولا أحوال الناس لا يقدر على دفع الشر عن نفسه، ولا يستطيع ذلك. قالت أم الأسد: أتظن أيها الغادر المحتال بقولك هذا أنك تخدع الملك، ولا يسجنك؟ قال دمنة: الغادر الذي لا يأمن عدوه مكره، وإذا استمكن من عدوه قتله على غير ذنب. قالت أم الأسد: أيها الغادر الكذوب، أتظن أنك ناجٍ من عاقبة كذبك؟ وأن محالك هذا ينفعك مع عظم جرمك؟ قال دمنة: الكذوب إلي يقول ما لم يكن، ويأتي بما لم يقل ولم يفعل، وكلامي واضحٌ مبينٌ. قالت أم الأسد: العلماء منكم هم الذين يوضحون أمره بفضل الخطاب. ثم نهضت فخرجت. فدفع الأسد دمنة إلى القاضي، فأمر بحبسه، فألقي في عنقه حبلٌ، وانطلق به إلى السجن. فلما انتصف الليل أخبر كليلة أن دمنة في الحبس. فأتاه مستخفياً؛ فلما رآه وما هو عليه من ضيق القيود، وخرج المكان، بكى، وقال له: ما وصلت إلى ما وصلت إليه إلا لاستعمالك الخديعة والمكر، وإضرابك عن العظة؛ ولكن لم يكن لدي بدٌ فيما مضى من إنذارك والنصيحة لك والمسارعة إليك في خلوص الرغبة فيك: فإنه لكل مقامٍ مقالٌ؛ ولكل موضعٍ مجالٌ.

ولو كنت قصرت في عظتك حين كنت في عافيةٍ، لكنت اليوم شريكك في ذنبك؛ غير أن العجب دخل منك مدخلاً قهر رأيك، وغلب على عقلك؛ وكنت أضرب لك الأمثال كثيراً، وأذكرك قول العلماء. وقد قالت العلماء: إن المحتال يموت قبل أجله. قال دمنة: قد عرفت صدق مقالتك. وقد قالت العلماء: لا تجزع من العذاب إذا وقفت منك على خطيئة؛ ولأن تعذب في الدنيا بجرمك، خيرٌ من أن تعذب في الآخرة بجهنم مع الإثم. قال كليلة: قد فهمت كلامك؛ ولكن ذنبك عظيمٌ، وعقاب الأسد شديدٌ أليمٌ. وكان بقربهما في السجن فهدٌ معتقلٌ يسمع كلامهما، ولا يريانه؛ فعرف معاتبة كليلة لدمنة على سوء فعله، وما كان منه؛ وأن دمنة مقرٌ بسوء عمله، وعظيم ذنبه؛ فحفظ المحاورة بينهما، وكتمها ليشهد بها إن سئل عنها. ثم إن كليلة انصرف إلى منزله، ودخلت أم الأسد حين أصبحت على الأسد؛ وقالت له: يا سيد الوحوش، حوشيت أن تنسى ما قلت بالأمس؛ وأنك أمرت به لوقته؛ وأرضيت به رب العباد. وقد قالت العلماء: لا ينبغي للإنسان أن يتوانى في الجد للتقوى؛ بل لا ينبغي أن يدافع عن ذنب الأثيم. فلما سمع الأسد كلام أمه، أمر أن يحضر النمر، وهو صاحب القضاء. فلما حضر قال له وللجوّاس العادل: اجلسا في موضع الحكم، وناديا في الجند صغيرهم وكبيرهم أن يحضروا وينظروا في حال دمنة، ويبحثوا في شأنه، ويفحصوا عن ذنبه، ويثبتوا قوله وعذره في كتب القضاء؛ وارفعا إلى ذلك يوماً فيوماً. فلما سمع ذلك النمر والجواس العادل وكان هذا الجواس عم الأسد، قالا: سمعاً وطاعةً لما أمر الملك. وخرجا من عنده؛ فعملا بمقتضى ما أمرهما به؛ حتى إذا مضى من اليوم الذي جلسوا فيه ثلاث ساعات، أمر القاضي أن يؤتى بدمنة؛ فأتي به، فأوقف بين يديه، والجماعة حضور. فلما استقربه المكان نادى سيد الجمع بأعلى صوته: أيها الجمع. إنكم قد علمتم أن سيد السباع لم يزل منذ قتل شتربة خائر النفس، كثير الهم والحزن، يرى أنه قد قتل شتربة بغير ذنب؛ وأنه أخذه بكذب دمنة ونميمته. وهذا القاضي قد أمر أن يجلس مجلس القضاء، ويبحث عن شأن دمنة. فمن علم منكم شيئاً في أمر دمنة من خيرٍ أو شرٍ، فليقل ذلك، وليتكلم به على رءوس الجمع والأشهاد، ليكون القضاء في أمره أولى، والعجلة من الهوى، ومتابعة الأصحاب على الباطل ذل. فعندها قال القاضي: أيها الجمع اسمعوا قول سيدكم، ولا تكتموا ما عرفتم من أمره؛ واحذروا في الستر عليه ثلاث خصالٍ: إحداهن، وهي أفضلهن، ألا تزدروا فعله، ولا تعدوه يسيراً: فمن أعظم الخطايا قتل البريء الذي لا ذنب له بالكذب والنميمة؛ ومن علم من أمر هذا الكتاب الذي اتهم البريء بكذبه ونميمته شيئاً، فستر عليه فهو شريكه في الإثم والعقوبة. والثانية إذا اعترف المذنب بذنبه، كان أسلم له، وأحرى بالملك وجنده أن يعفوا عنه ويصفحوا. والثالثة ترك مراعاة أهل الذم والفجور، وقطع أسباب مواصلاتهم ومودتهم عن الخاصة والعامة؛ فمن علم من أمر هذا المحتال شيئاً، فليتكلم به على رءوس الأشهاد ممن حضر، ليكون ذلك حجةً عليه؛ وقد قيل: إنه من كتم شهادة ميتٍ، ألجم بلجامٍ من نارٍ يوم القيامة؛ فليقل كل واحد منكم ما علم. فلما سمع ذلك الجمع كلامه، أمسكوا عن القول. فقال دمنة: ما يسكتكم؟ تكلموا بما علمتم؛ واعلموا أن لكل كلمة جواباً. وقد قالت العلماء: من يشهد بما لا ي، ويقول ما لا يعلم، أصابه ما أصاب الطبيب الذي قال لما لا يعلمه: إني أعلمه. قالت الجماعة: وكيف كان ذلك؟

قال دمنة: زعموا أنه كان في بعض المدن طبيب له رفق وعلم، وكان ذا فطنة فيما يجري على يديه من المعالجات، فكبر ذلك الطبيب وضعف بصره. وكان لملك تلك المدينة ابنة قد زوجها لابن أخ له، فعرض لها ما يعرض للحوامل من الأوجاع. فجيء بهذا الطبيب، فلما حضر، سأل الجارية عن وجعها وما تجد، فأخبرته، فعرف دائها ودواءها، وقال: لو كنت أبصر، لجمعت الأخلاط على معرفتي بأجناسها، ولا أثق في ذلك بأحد غيري. وكان في المدينة رجل سفيه، فبلغه الخبر، فأتاهم وادعى علم الطب، وأعلمهم انه خبير بمعرفة أخلاط الأدوية والعقاقير، عارف بطبائع الأدوية المركبة والمفردة، فأمره الملك أن يدخل خزانة الأدوية فيأخذ من أخلاط الدواء حاجته، فلما دخل السفيه الخزانة، وعرضت عليه الأدوية، ولا يدري ما هي، ولا له بها معرفة، أخذ في جملة ما أخذ منها صرة فيها سمّ قاتل لوقته، وخلطه في الأدوية، ولا علم له به، ولا معرفة عنده بجنسه. فما تمت أخلاط الأدوية، سقى الجارية منه، فماتت لوقتها. فلما عرف الملك ذلك، دعا بالسفيه، فسقاه من ذلك الدواء، فمات من ساعته. وإنما ضربت لكم هذا المثل لتعلموا ما يدخل على القائل والعامل من الزلة بالشبه في الخروج عن الحد، فمن خرج منكم عن حده أصابه ما أصاب ذلك الجاهل، ونفسه الملومة.

وقد قالت العلماء: ربما جزى المتكلم بقوله. والكلام بين أيديكم: فانظروا لأنفسكم. فتكلم سيد الخنازير، لإدلاله وتيهه بمنزلته عند الأسد، فقال: يا أهل الشرف من العلماء، اسمعوا مقالتي، وعوا بأحلامكم كلامي، فالعلماء قالوا في شأن الصالحين: إنهم يعرفون بسيماههم، وأنتم معاشر ذوي الاقتدار، بحسن صنع الله لكم، وتمام نعمته لديكم، تعرفون الصالحين بسيماهم وصورهم، وتخبرون بالشيء الصغير، وهاهنا أشياء كثيرة تدل على هذا الشقي دمنة، وتخبر عن شره، فاطلبوها على ظاهر جسمه: لتستيقنوا وتسكنوا إلى ذلك. قال القاضي لسيد الخنازير: قد علمت، وعلم الجماعة الحاضرون، أنك عارف بما في الصور من علامات السوء، ففسر لنا ما تقول، وأطلعنا على ما ترى في صورة هذا الشقي. فأخذ سيد الخنازير يذم دمنة، وقال: إن العلماء قد كتبوا وأخبروا: أنه من كانت عينه اليسرى أصغر من عينه اليمنى وهي لا تزال تختلج، وكان أنفه مائلاً إلى جنبه الأيمن، فهو شقي خبيث. قال له دمنة: شأنك عجب، أيها القذر، ذو العلامات الفاضحة القبيحة، ثم العجب من جرائتك على طعام الملك، وقيامك بين يديه، مع ما بجسمك من القذر والقبح، ومع ما تعرفه أنت ويعرفه غيرك من عيوب نفسك، أفتتكلم في النقي الجسم الذي لا عيب فيه؟ ولست أنا وحدي أطلع على عيبك، لكن جميع من حضر قد عرف ذلك. وقد كان يحجزني عن إظهاره ما بيني وبينك من الصداقة. فأما إذا قد كذبت عليّ وبهتني في وجهي، وقمت بعداوتي، فقلت ما قلت فيّ بغير علم على رؤوس الحاضرين، فأني أقتصر على إظهار ما أعرف من عيوبك، وتعرف الجماعة، وحق على من عرفك حق معرفتك أن يمنع الملك من استعماله إياك على طعامه، فلو كلّفت أن تعمل الزراعة لكنت جديراً بالخذلان فيها، فالأحرى بك ألاّ تدنو إلى عمل من الأعمال، وألاّ تكون دباغاً ولا حجاماً لعامِّيٍّ فضلاً عن خاصِّ خدمة الملك. قال سيد الخنازير: أتقول لي هذه المقالة، وتلقاني بهذا الملقى؟ قال دمنة، نعم، وحقاً قلت فيك، وإياك أعني، أيها الأعرج المكسور الأفدع الرِّجلِ، المنفوخ البطن، الأفلح الشفتين، السيءِ المنظر والمخبر. فلما قال ذلك دمنة، تغير وجه سيد الخنازير واستعبر واستحى، وتلجلج لسانه، واستكان وفتر نشاطه. فقال دمنة، حين رأى انكساره وبكاءه: إنما ينبغي أن يطول بكاؤك، إذا اطلع الملك على قذرك وعيوبك فعزلك عن طعامه، وحال بينك وبين خدمته، وأبعدك عن حضرته. ثم إن شغبراً قد جربه فوجد فيه أمانة وصدقاً، فرتبه في خدمته، وأمره أن يحفظ ما يجري بينهم ، ويطلعه على ذلك. فقام الشغبر فدخل على الأسد فحدثه بالحديث كله على جليته. فأمر الأسد بعزل سيد الخنازير عن عمله، وأمر ألا يدخل عليه، ولا يرى وجهه، وأمر بدمنة أن يسجن، وقد مضى من النهار أكثره، ورجع كل واحد منهم إلى منزله.

ثم إن شغبراً يقال له روزبة، كان بينه وبين كليلة إخاء ومودة، وكان عند الأسد وجيهاً، وعليه كريماً، واتفق أن كليلة أخذه الوجد إشفاقاً وحذراً على نفسه وأخيه، فمرض ومات، فانطلق هذا الشغبر إلى دمنة، فأخبره بموت كليلة فبكى وحزن، وقال: ما أصنع بالدنيا بعد مفارقة الأخ الصفى؟؟؟؟؟! ولكن أحمد الله تعالى حيث لم يمت كليلة حتى أبقى لي من ذوي قرابتي أخاً مثلك: فإني قد وثقت بنعمة الله تعالى وإحسانه إليّ فيما رأيت من اهتمامك بي ومراعاتك لي، وقد علمت أنك رجائي وركني فيما أنا فيه، فأريد من إنعامك أن تنطلق إلى مكان كذا، فتنظر إلى ما جمعته أنا وأخي بحيلتنا وسعينا ومشيئة الله تعالى، فتأتيني به، ففعل الشغبر ما أمره به دمنة. فلما وضع المال بين يديه أعطاه شطره، وقال له: إنك على الدخول والخروج على الأسد أقدر من غيرك، فتفرغ لشأني، واصرف اهتمامك إلي، واسمع ما أذكر به عند الأسد، إذا رفع إليه ما يجري بيني وبين الخصوم، وما يبدو من أم الأسد في حقي، وما ترى من متابعة الأسد لها، ومخالفته إياها في أمري، وأحفظ ذلك كله. فأخذ الشغبر ما أعطاه دمنة وانصرف عنه على هذا العهد. فانطلق إلى منزله فوضع المال فيه. ثم إن الأسد بكّر من الغد فجلس، حتى إذا مضى من النهار ساعتان، استأذن عليه أصحابه فأذن لهم، فدخلوا عليه، ووضعوا الكتاب بين يديه. فلما عرف قولهم وقول دمنة دعا أمه فقرأ عليها ذلك. فلما سمعت ما في الكتاب نادت بأعلى صوتها: إن أنا أغلظت في القول فلا تلومني: فإنك لست تعرف ضرك من نفعك. أليس هذا مما كنت أنهاك عن سماعه: لأنه كلام هذا المجرم المسيء إلينا، الغادر بذمتنا؟ ثم إنها خرجت مغضبة، وذلك بعين الشغبر الذي أخاه دمنة وبسمعه. فخرج في أثرها مسرعاً، حتى أتى دمنة، فحدثه بالحديث. فبينما هو عنده إذ جاء رسول انطلق بدمنة إلى الجمع عند القاضي. فلما مثل بين يدي القاضي استفتح سيد المجلس فقال: يا دمنة قد أنبأني بخبرك الأمين الصادق وليس ينبغي لنا أن نفحص عن شأنك أكثر من هذا: لأن العلماء قالوا: إن الله تعالى جعل الدنيا سبباً ومصداقاً للآخرة: لأنها دار الرسل والأنبياء الدالين على الخير الهادين إلى الجنة الداعين إلى معرفة الله تعالى. وقد ثبت شأنك عندنا وأخبرنا عنك من وثقنا بقوله إلا أن سيدنا أمرنا بالعودة في أمرك والفحص عن شأنك وإن كان عندنا ظاهراً بينا. قال دمنة: أراك أيها القاضي لم تتعود العدل في القضاء وليس في عدل الملك دفع المظلومين ومن لا ذنب له إلى قاض غير عادل بل المخاصمة عنهم والذود. فكيف ترى أن أقتل ولم أخاصم؟ وتعجل ذلك موافقة لهواك ولم تمض بعد ذلك ثلاثة أيام. ولكن صدق الذي قال: إن الذي تعود عمل البر هين عليه عمله وإن أضربه. قال القاضي: إن نجد في كتب الأولين: أن القاضي ينبغي له أن يعرف عمل المحسن والمسيء ليجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فإذا ذهب إلى هذا ازداد المحسنون حرصاً على الإحسان والمسيؤون إجتناباً للذنوب. والرأي لك يا دمنة أن تنظر الذي وقعت فيه وتعترف بذنبك وتقر به وتتوب. فأجابه دمنة: إن صالحي القضاة لا يقطعون بالظن ولا يعملون به لا في الخاصة ولا في العامة: لعلمهم أن الظن لا يغني من الحق شيئا. وأنتم إن ظننتم أني مجرم فيما فعلت فإني أعلم بنفسي منكم وعلمي بنفسي يقين لاشك فيه وعلمكم بي غاية الشك وإنما قبح أمري عندكم أني سعيت بغيري فما عذري عندكم إذا سعيت بنفسي كاذبا عليها فأسلمتها للقتل والعطب على معرفة مني ببراءتي وسلامي مما قرفت به؟ ونفسي لأعظم الأنفس على حرمة وأوجبها حقاً. فلو فعلت هذا بأقصاكم وأدناكم، لما وسعني في ديني، ولا حسن بي في مروءتي، ولا حق لي أن أفعله فكيف أفعله بنفسي؟ فأكفف أيها القاضي عن هذه المقالة: فإنها إن كانت منك نصيحة فقد أخطأت موضعها وإن كانت خديعة فإن أقبح الخداع ما نظرته وعرفت أنه من غير أهله مع أن الخداع والمكر ليسا من أعمال صالحي القضاة ولا تقاة الولاة واعلم أن قولك مما يتخذه الجهال والأشرار سنة يقتدون بها: لأن أمور القضاة يأخذ بصوابها أهل الصواب وبخطئها أهل الخطأ والباطل والقليلو الورع وأنا خائف عليك أيها القاضي من مقالتك هذه أعظم الرزايا والبلايا وليس من البلاء و المصيبة أنك لم تزل في نفس الملك والجند والخاصة والعامة فاضلاً في رأيك مقنعاً في عدلك مرضياً في حكمك وعفافك وفضلك وإنما البلاء كيف أنسيت ذلك في أمري. فلما سمع القاضي ذلك من لفظ دمنة نهض فرفعه إلى الأسد على وجهه فنظر في الأسد ثم دعا أمه فعرضه عليها. فقالت حين تدبرت كلام دمنة للأسد: لقد صار اهتمامي بما أتخوف من احتيال دمنة لك بمكره ودهائه حتى يقتلك أو يفسد عليك أمرك أعظم من اهتمامي بما سلف من ذنبه إليك في الغش والسعاية حتى قتلت صديقك. بغير ذنب. فوقع قولها في نفسه. فقال لها: أخبريني عن الذي أخبرك عن دمنة بما أخبرك فيكون حجة لي في قتل دمنة. فقالت: إني لأكره أن أفشي سر استكتمنيه، فلا يهنئني سروري بقتل دمنة إذا تذكرت أني استظهرت عليه بركوب ما نهت عنه العلماء من كشف السر ولكني أطالب الذي استودعنيه أن يجعلني في حل من ذكره لك ويقوم هو بعلمه وما سمع منه. ثم انصرفت وأرسلت إلى النمر وذكرت له ما يحق عليه من حسن معاونته الأسد على الحق وإخراج نفسه من الشهادة التي لا يكتمها مثله مع ما يحق عليه من نصر المظلومين وتثبيت حجة الحق في الحياة والممات: فإنه قد قالت العلماء: من كتم حجة ميت أخطأ حجته يوم القيامة. فلم تزل به حتى قام فدخل على الأسد فشهد عنده بما سمع من إقرار دمنة. فلما شهد النمر بذلك أرسل الفهد المحبوس الذي سمع إقرار دمنة وحفظه إلى الأسد فقال: إن عندي شهادة. فأخرجوه. فشهد على دمنة بما سمع من إقراره. فقال لهما الأسد: ما منعكما أن تقوما بشهادتكما وقد علمتما أمرنا واهتمامنا بالفحص عن أمر دمنة فقال كل واحد منهما: قد علمنا أن شهادة الواحد لا توجب حكماً فكرهنا التعرض لغير ما يمضي به الحكم حتى إذا شهد أحدنا قام الآخر بشهادته فقبل الأشد قولهما. وأمر بدمنة أن يقتل في حبسه: فقتل أشنع قتلة. فمن نظر في هذا فليعلم أن من أراد منفعة نفسه بضر غيره بالخلابة والمكر فإنه سيجري على خلابته ومكره.ياً في حكمك وعفافك وفضلك وإنما البلاء كيف أنسيت ذلك في أمري. فلما سمع القاضي ذلك من لفظ دمنة نهض فرفعه إلى الأسد على وجهه فنظر في الأسد ثم دعا أمه فعرضه عليها. فقالت حين تدبرت كلام دمنة للأسد: لقد صار اهتمامي بما أتخوف من احتيال دمنة لك بمكره ودهائه حتى يقتلك أو يفسد عليك أمرك أعظم من اهتمامي بما سلف من ذنبه إليك في الغش والسعاية حتى قتلت صديقك. بغير ذنب. فوقع قولها في نفسه. فقال لها: أخبريني عن الذي أخبرك عن دمنة بما أخبرك فيكون حجة لي في قتل دمنة. فقالت: إني لأكره أن أفشي سر استكتمنيه، فلا يهنئني سروري بقتل دمنة إذا تذكرت أني استظهرت عليه بركوب ما نهت عنه العلماء من كشف السر ولكني أطالب الذي استودعنيه أن يجعلني في حل من ذكره لك ويقوم هو بعلمه وما سمع منه. ثم انصرفت وأرسلت إلى النمر وذكرت له ما يحق عليه من حسن معاونته الأسد على الحق وإخراج نفسه من الشهادة التي لا يكتمها مثله مع ما يحق عليه من نصر المظلومين وتثبيت حجة الحق في الحياة والممات: فإنه قد قالت العلماء: من كتم حجة ميت أخطأ حجته يوم القيامة. فلم تزل به حتى قام فدخل على الأسد فشهد عنده بما سمع من إقرار دمنة. فلما شهد النمر بذلك أرسل الفهد المحبوس الذي سمع إقرار دمنة وحفظه إلى الأسد فقال: إن عندي شهادة. فأخرجوه. فشهد على دمنة بما سمع من إقراره. فقال لهما الأسد: ما منعكما أن تقوما بشهادتكما وقد علمتما أمرنا واهتمامنا بالفحص عن أمر دمنة فقال كل واحد منهما: قد علمنا أن شهادة الواحد لا توجب حكماً فكرهنا التعرض لغير ما يمضي به الحكم حتى إذا شهد أحدنا قام الآخر بشهادته فقبل الأشد قولهما. وأمر بدمنة أن يقتل في حبسه: فقتل أشنع قتلة. فمن نظر في هذا فليعلم أن من أراد منفعة نفسه بضر غيره بالخلابة والمكر فإنه سيجري على خلابته ومكره.

الحكاية التالية : باب الحمامة المطوقة